أخطاء في باب التوبة
هناك أخطاء في باب التوبة يقع فيها كثير من الناس، وذلك ناتج عن الجهل بمفهوم التوبة، أو التفريط وقلة المبالاة، فمن تلك الأخطاء ما يلي:
1_تأجيل التوبة: فمن الناس من يدرك خطأه، ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه يؤجل التوبة، ويسوِّف فيها؛ فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد التخرج أو الزواج، ومنهم من يؤجلها ريثما تتقدم به السن، إلى غير ذلك من دواعي التأجيل.
فيجب على العبد أن يتوب من الذنب، ومن تأخير التوبة؛ لوجوب ذلك، ولئلا تصير المعاصي راناً على قلبه، وطبعاً لا يقبل المحو، أو أن تعاجله المنية وهو مصر على الذنب.
ثم إن ترك المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها، وسبب لفعل ذنوب أخرى، قال النبي " صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإذا تاب ونزع، واستغفر صقل قلبه منها، وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (المطففين: 14
2_الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه: فكثير من الناس لا تخطر بباله هذه التوبة؛ فتراه يتوب من الذنوب التي يعلم أنه قد وقع فيها، ولا يظن بعد ذلك أن عليه ذنوباً غيرها.
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة، والتي قلَّ من يتفطن لها؛ فهناك ذنوب خفية، وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب، ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم؛ فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم؛ فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل؛فالمعصية في حقه أشد.
ولهذا قال النبي " صلى الله عليه وسلم : الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل
فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله ؟
قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ([1]).
فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه العبد أنه ذنب، ومما لا يعلمه العبد.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ إنك أنت المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت
وفي الحديث الآخر: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ([2]).
فهذا التعميم، وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه، وما لم يعلمه.
3_ترك التوبة؛ مخافة الرجوع للذنوب: فمن الناس من يرغب في التوبة، ولكنه لا يبادر إليها؛ مخافة أن يعاود الذنب مرة أخرى.
وهذا خطأ؛ فعلى العبد أن يتوب إلى الله، فلربما أدركه الأجل وهو لم ينقض توبته.
كما عليه أن يحسن ظنه بربه ـ جل وعلا ـ وأن يستحضر أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأنه ـ تعالى ـ عند ظن عبده به، قال النبي ": صلى الله عليه وسلم قال الله ـ عز وجل ـ: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني
قال النبي "فيما يحكى عن ربه ـ عز وجل ـ قال: =أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال ـ تبارك وتعالى ـ أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربَّـاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب، فقال: أيْ ربّ اغفر لي ذنبي، فقال ـ تبارك وتعالى ـ: عبدي أذنب ذنبا ً، فعلم أن له ربَّـاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب ذنباً فقال: أي ربِّ اغفر لي، فقال ـ تبارك وتعالى ـ: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربَّـاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك
ومعنى ذلك: ما دمت تُبتلى بالذنب، فتبادر إلى التوبة منه ـ غفرت لك
4_ترك التوبة؛ خوفاً من لمز الناس: فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة، ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز بعض الناس، وعيبهم إياه، ووصمهم له بالتشدد والوسوسة، ونحو ذلك مما يُرمى به بعض من يستقيم على أمر الله، حيث يرميه بعض الجهلة بذلك؛ فيُقْصِرُ عن التوبة؛ خوفاً من اللمز والعيب.
وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يُقَدِّم خوف الناس على خوف رب الناس ؟
ثم إن ما يرمي به إذا هو تاب إنما هو ابتلاء وامتحان؛ ليمتحن أصادق هو أم كاذب؛ فإذا صبر في بداية الأمر هان عليه ما يلقاه، وإن حسنت توبته، واستمر على الاستقامة أجلَّه من يُعَيِّره، وربما اقتدى به.
أضف إلى ذلك أن الإنسان سيذهب إلى قبره وحيداً، وسيحشر إلى ربه فردًا؛ فماذا سينفعه فلان أو فلان ممن يثبطونه ؟
5_ترك التوبة؛ مخافة سقوط المنزلة، وذهاب الجاه والشهرة: فقد يكون لشخص ما ـ منزلة، وحظوة، وجاه، فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوبة، كما قال أبو نواس لأبي العتاهية، وقد لامه على تهتكُّه في المعاصي: ولا ريب أن ذلك نقص في ديانة الإنسان، وشجاعته، ومروءته، وعقله.
ثم إن الشهرة والجاه عرض زائل، وينتهي بنهاية الإنسان، بل ربما صارت وبالاً عليه في حياته، وإذا هو قدم على ربه فلن ينفعه إلا ما قدم من صالح عمله.
ثم إنه إذا ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، والعوضُ من الله أنواع مختلفة، وأجلُّ ما يُعَوَّضُ به أن يأنس بالله، وأن يُرزق محبته ـ عز وجل ـ وطمأنينة القلب بذكره.
6_التمادي في الذنوب؛ اعتماداً على سعة رحمه الله: فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا زجر وليم على ذلك قال: إن الله غفور رحيم، كما قال أحدهم:
وكثَّر ما استطعت من الخطايا
إذا كان القدوم على كريم
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه، وجهل، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين، المفرطين المعاندين، المصرين.
ثم إن الله ـ عز وجل ـ مع عفوه، وسعة رحمته ـ شديد العقاب، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
قال ـ تعالى ـ: [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ](الحجر: 49 ،50).
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
دَرْكَ الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً
منها إلى الدنيا بذنب واحد
ثم أين تعظيم الله في قلب هذا المتمادي ؟ وأين محبته والحياء منه ـ عز وجل ـ ؟
فحسن الظن ـ إذاً ـ ورجاء الرحمة والمغفرة إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى حسن الظن، ورجاء الرحمة والمغفرة.
فحسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور والله المستعان.
7_الاغترار بإمهال الله للمسيئين: فمن الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي؛ فإذا نصح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأكلهم الربا وقد نهو عنه، ومع ذلك نراهم وقد درَّت عليهم الأرزاق، وأنسئت لهم الآجال، وهم يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال ؟
ولا ريب أن هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله، وبسننه ـ عز وجل ـ.
ويقال لهذا وأمثاله: رويدك، رويدك؛ فالله ـ عز وجل ـ يعطي الدنيا من أحب، ومن لا يحب؛ وهؤلاء المذكورون مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون؛ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ فما هذا الذي هم فيه من النعيم إلا استدراج، وإمهال، وإملاء من الله ـ عز وجل ـ حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال النبي"صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ قوله ـ تعالى ـ [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102)([3]).
قال عليه الصلاة والسلام ـ: إذا رأيت الله ـ عز وجل ـ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ـ فإنما هو استدراج ثم تلا قوله ـ عز وجل ـ[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الأنعام: 44،45)+([4]).
قال ابن الجوزي فكلُّ ظالمٍ معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجـل، وكذلـك كل مذنـب ذنـباً، وهو معنى قوله ـ تعالى ـ: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ](النساء: 123).
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن أن لا عقوبة، وغفلتُه عمّا عوقب به عقوبة
وقال الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة
وقال: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل
يا من غدا في الغي والتيهِ
وغره طول تماديهِ
أملى لك الله فبارزتهُ
ولم تَخَفْ غبَّ معاصيهِ
8_اليأس من رحمة الله: فمن الناس من إذا أسرف على نفسه بالمعاصي، أو تاب مرّة أو أكثر ثم عاد إلى الذنب مرة أخرى ـ أيس من التوبة، وظن أنه ممن كتب عليهم الشقاوة؛ فاستمرّ في الذنوب، وترك التوبة إلى غير رجعة.
وهذا ذنب عظيم، وربما كان أعظم من مجرد الذنب الأول الذي ارتكبه؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون؛ فليجدد التوبة، وليجاهد نفسه في ذات الله.
9_الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي: فهناك من يحتج بالقدر على معاصيه وذنوبه، فيحتج بالقدر على ترك الطاعات، أو فعل المحرمات؛ فإذا قيل له ـ على سبيل المثال ـ: لمَ لا تصلي ؟ قال: ما أراد الله ذلك، وإذا قيل له: متى ستتوب ؟ قال: إذا أراد الله ذلك.
وهذا خطأ وضلال وانحراف؛ ذلك أن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو ما فعل من المحرمات؛ فالاحتجاج بالقدر على هذا النحو مخاصمة لله، واحتجاج من العبد على الرب، وحمل للذنب على الأقدار؛ فلا عذر ـ إذاً ـ لأحد البتة في معصية الله، ومخالفة أمره مع علمه بذلك، وتَمَكُّنه من الفعل أو الترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم لا في الدنيا ولا في الأخرى.
ولو كان هذا مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد، ويحتج بالقدر.
ونفس المحتج بالقدر إذا اعتُدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده.
وبالجملة فالاحتجاج بالقدر يسوغ عند المصائب لا المعائب؛ فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب.
10_توبة الكذابين: الذي يهجرون الذنوب هجرًا مؤقَّتاً؛ لمرض، أو مناسبة، أو عارض، أو خوف، أو رجاءِ جاه، أو خوفِ سقوطه، أو عدمِ تَمَكُّنٍ؛ فإذا واتتهم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم؛ فهذه توبة الكذابين، وليست بتوبة في الحقيقة.
ولا يدخل في ذلك من تاب فحدثته نفسه بالمعصية، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها، فندم وتاب؛ فهذه توبة صادقة، كما لا يدخل فيها الخطرات ما لم تكن فعلاً مُتَحَقَّقاً.
([1]) رواه البخاري في الأدب المفرد (37)، وأبو يعلى (59).
([2]) رواه مسلم (675).
([3]) أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583).
([4]) أخرجه احمد 4/145، ورجاله ثقات.