إن لله تعالى أسرار مع الصائمين،
كما تكون بين المحبوب ومحبوبه أسرار لا يحب أن يطلع عليها أحد ..
وكان النبي يقول
"من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل"
[صحيح الجامع (6018)]
يا أهل الإسلام ..
ماذا صنع الصيام في قلوبكم؟ وهل تبدلت أحوالكم مع ربِّكم؟
إننا بحاجة لوقفة لمعرفة الحكمة من فرض الصيام علينا؛ لعلنا ننال جانب من أسراره ..
الحكمة من الصيام
أولاً: كسر النفس ..
فإن الشِّبَع والرِّي تحمل النفس على الأشر والبَطَر والغفلة.
يقول ابن القيم رحمه الله "بين العمل وبين القلب مسافة، وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة، ولا خوف، ولا رجاء، ولا زهد في الدنيا، ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، وبين الحق والباطل، ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميَّز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال. ثمَّ بين القلب وبين الربِّ مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى فى طلبها لرأى العَجَب" [مدارج السالكين (1:439)]
فإذا صلى العبد أو قام بعمل صالح، كان بين أثر هذا العمل وبين القلب مسافة وعليها قطاع طرق .. يمنعون أثر العمل من الوصول إلى القلب ..
ومن قطاع الطرق: النفس الأمارة بالسوء ..
يقول ابن القيم "وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الربِّ، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها.
فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعًا لها تحت أوامرها. وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم" [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2:12)].
فصفة النفس أنها أمارة بالسوء والفحشاء .. {.. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ..} [يوسف: 53]
وصفة القلب: أنه يطمئن بذكر الله .. {.. أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
فإذا استولت النفس على صاحبها، يصير بدون قلب ويأمره قلبه بالسوء والفحشاء ..
وهذا يحدث إذا لم يصل أثر العمل الصالح إلى القلب ..
كما يقول ابن القيم "إن لم يجد العمل منفذًا إلى القلب، وثبت عليه النفس فأخذته وصيَّرته جندًا لها، فصالت به وعلت وطغت، فتراه أزهد ما يكون وأعبد ما يكون وأشده اجتهادًا وهو أبعد ما يكون عن الله" [مدارج السالكين (3:225)]
والصيام يكسر تلك النفس الأمارة بالسوء، ويجعلها أكثر ذلاً وانكسارًا لله تعالى ..
ولاحظ ذلك في نفسك قبل موعد الإفطار بدقائق ..
لو قيل لك أن تأكل، لن تستطيع أن تأكل لأن الملك لم يأذن بذلك .. وستجد نفسك منكسرة ذليلة وأنت تدعو من قلبك أن يغفر لك ربَّك؛ لذا كانت دعوة الصائم في هذا الوقت مُستجابة.
أما بعد أن تأكل وتشبع نفسك، تنتابها العزة وفرق كبير بين الحالتين .. ولن تلاحظ هذا الفرق إلا إذا كنت ممن يصومون بحق، ولست ممن ينامون طوال النهار ويستيقظون على طعام الإفطار!
ثانيًا: تخلي القلب للفكر والذكر ..
فتناول الشهوات يُقسِّي القلب ويُعميه، ويحول بين العبد والفكر والذكر، ويستدعي الغفلة.
وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوِّر القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته، ويخلِّيه للذكر والفكر.
لذلك قال رسول الله
"ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه.
فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"
[رواه الترمذي وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (2135)]
فنحن قومٌ لا نعيش لنأكل، إنما نأكل لنقوم لله تعالى،،
ثالثًا: أن تعرف قدر نعمة الله عليك ..
بإقداره له على ما منعه كثيرًا من الفقراء من فضول الطعام والشراب؛ فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك، يتذكر به من مُنِعَ من ذلك طوال العام. فيوجب له ذلك شكر نعمة الله تعالى عليه، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته.
فإذا جاء وقت الإفطار، عليك أن تحمد الله قبل أن تأكل ..
لأن غيرك محرومون من نعمة الطعام طوال الوقت.
وقد أمرنا الله تعالى بالنظر في الطعام ..
قال تعالى {.. انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ..} [الأنعام: 99]؛
لكي نتفكَّر في بديع صنعه سبحانه وتعالى ونشكر نعمته علينا.
لذلك كانت من حكم الصيام، أن يمنع عنك الطعام والشراب لبعض الوقت .. لأن الإنسان لا يُدرك قيمة النعمة إلا إذا سُلِبها،،
رابعًا: الصيام يُضيِّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ..
عن أنس قال: قال رسول الله
"إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" [متفق عليه]
فتَسْكُن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب؛
لذلك أمر النبي الشباب الأعزب بالصيام ..
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله
"يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"
[متفق عليه] ..
وجاء، أي: قاطع يقطع دابر الشهوة.
حقيقة الصوم
يقول ابن القيم: لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجارى الشيطانِ من العبد بتضييق مجارى الطعام والشراب، وتُحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها فى معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه ..
فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين،
وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال،
فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم.
وللصوم تأثيرٌ عجيب فى حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التى إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدى الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التقوى
كما قال تعالى:
{يأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. [زاد المعاد (2:28,29)]
تلك كانت بعضٌ من أسرار الصيام، وقد علمت أن المقصود الأعظم منه هو التقوى ..
وهي الدرة المفقودة والغاية المنشودة، وفرصتك في تحصيلها في هذا الشهر المبارك أعظم ..
فبادر والله المُستعان،،